الملخص:
يتألف هذا المقال من ثلاثة أجزاء. في الجزء الأول، نعرض بعض آليات معتقداتنا المتنوعة – والتي هي في الغالب غير دينية – مع بيان علاقتها بالواقع وبالاستدلال، وتقلباتها صعودًا وهبوطًا، وذلك باختصار. في الجزء الثاني، نناقش حصراً العوامل الاثنين والعشرين التي تقوّي مختلف أنواع معتقداتنا. أمّا في الجزء الثالث، فسوف نتناول المعتقدات الدينية على وجه التحديد، ونُظهر أنّ جميع هذه العوامل الاثني والعشرين متوفّرة في مسيرة الأربعين، ونوضّح كيف تسهم هذه العوامل في ترسيخ معتقداتنا الدينية ورفع مستواها. وقد عُرض مقتطف موجز من هذا المقال وبُثّ في التاسع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2019 في برنامج تلفزيوني بمناسبة أربعين الإمام الحسين، ويمكن مشاهدته على الرابط: https://www.aparat.com/v/nXMo8
أ – آلية تكوّن المعتقدات بأنواعها المختلفة وتقلباتها:
إنّ حياتنا وسلوكنا مليئان بالمعتقدات التي لا نوليها اهتمامًا. هذه المعتقدات هي التي تدفع سلوكياتنا في أوقات مختلفة، وبعضها معتقدات دينية. وفي هذا القسم، نهدف إلى تحليل مجموع معتقداتنا، ومعرفة الآلية التي تسهم في تكوينها أو تقويتها أو إضعافها، وما العلاقة التي يمكن أن توجد بين معتقداتنا، مع إلقاء نظرة مختصرة على صلتها بأنواع معارفنا الأخرى.
تتسم المعتقدات بالخصائص الآتية:
١- جميع جوانب حياتنا مليئة بالمعتقدات، وفي كثير من الأحيان تكون هي الأساس لأفعالنا سلوكنا.
٢- من بين ما يدعم المعتقدات أو يناقضها الحقائق، لكن أحيانًا لا تتمكن الحقائق من تغيير المعتقدات.
٣- في بعض الحالات، لا تقوم المعتقدات على أساس من حقيقة.
٤- كثيرًا ما تقاوم المعتقدات – رغم تعارضها مع الحقائق والوقائع – مقاومة شديدة وتحافظ على وجودها. (مثل اعتقاد قلة من الناس بأن الأرض مسطّحة)
٥- يمكن للاستدلال أن يساعد في تقوية المعتقدات أو إضعافها، لكن الاستدلال لا يؤثر بالضرورة في المعتقدات.
٦- لا يسهم الاستدلال إلا بقدر محدود في تعزيز المعتقدات، إذ تتداخل العديد من العناصر الأخرى في تقويتها.
٧- بعض المعتقدات لا تستند إلى أي حجج أو حقائق تدعمها (مثل الاعتقاد بتفوّق فريق كرة قدم على فريق آخر).
٨- المعتقدات تزداد قوة أو تضعف.
٩- بعض المعتقدات تتغلب على معتقدات أخرى أو تنهزم أمامها، وهناك صراع حاد بين المعتقدات.
١٠- تحتاج المعتقدات الغالبة دائمًا إلى قوة تمكّنها من مواجهة المعتقدات الأخرى، وإلا فإنها ستنهار.
١١- أحيانًا يؤدّي الصراع بين المعتقدات إلى دفع الإنسان نحو اليأس وفقدان المعنى واستنزاف طاقته.
١٢- يمكن تقييم المعتقدات.
١٣- يمكننا دائمًا معالجة مواطن الخلل في معتقداتنا.
١٤- هناك طرق لتحسين معتقداتنا، ويمكننا معالجة الخلل في الكثير منها واتخاذ خطوات لتصحيحها.
ب – العوامل التي تعزّز أنواع المعتقدات المختلفة:
في هذا القسم نكتفي بذكر العوامل التي يمكن أن تؤثر في تقوية معتقداتنا، مع الإشارة الموجزة إلى مثال لكل منها، من دون الخوض في العوامل التي تضعف المعتقدات أو كيفية معالجة الخلل فيها، إذ إنّ ذلك يستدعي دراسة أخرى. وفيما يلي عناوين هذه العوامل مع أمثلتها:
١- التوافق مع الحقائق: مثل الاعتقاد بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وهو ما يتوافق مع الحقائق التجريبية، أو الاعتقاد بحتمية الموت الذي اختبرناه في واقعنا.
٢- المنفعة: مثل الاعتقاد بجدوى الزراعة، وهو اعتقاد يتوافق مع الواقع، لكن فوائده تدفعنا إلى التمسك به، أو الاعتقاد برمزية العلم الوطني، الذي – رغم أنّه لا يدل بحدّ ذاته على حقيقة معينة – يمكن أن يكون مفيدًا وفعّالًا في الإيمان بالتلاحم الوطني.
٣- التوافق مع المعايير الأخلاقية: مثل الاعتقاد بضرورة مساعدة الآخرين، وهو اعتقاد تؤكده المعايير الأخلاقية، ويمكن أن يقودنا إلى سلوكيات قيّمة.
٤- الاقتران بالمتعة الباطنية: مثل الاعتقاد بلذّة مجالسة الأصدقاء، وهي متعة داخلية تعزز هذا الاعتقاد.
٥- إيجاد انسجام داخلي مع المعتقدات الإنسانية الأخرى: إذا كان بعض المعتقدات منسجمًا مع المعتقدات الراسخة في الإنسان ولم ترفضه المعتقدات الأخرى، فإنّ ذلك يساعد على ترسيخه فينا، مثل الاعتقاد بالسعي نحو حياة أفضل، وهو ما يتوافق مع مجموعة من معتقداتنا. أمّا إذا لم ينسجم اعتقاد ما مع بعض معتقداتنا الأخرى، فإنّ الصراع بينها قد يؤدي إلى التخلي عن بعضها لصالح البعض الآخر.
٦- تأييد المعتقد من قبل المراجع والجماعات المرجعية: مثل الاعتقاد بفعالية وصفة الطبيب في علاج المرض، فبما أنّنا نؤمن بالطبيب كسلطة علمية، فإننا نؤمن بوصفاته أيضًا. وبالطبع فإنّ الإيمان بالطبيب نفسه قد تكوّن من مجموعة معتقدات أخرى عبر عملية معينة.
٧- الارتكاز على سند تاريخي: إذا تحقق معتقد ما مرارًا في الماضي، فسوف نؤمن به بسبب هذا السند التاريخي، مثل الاعتقاد بثمار العمل الصالح في الحياة الدنيا.
٨- النشوء من منظومة معتقدات تشمل الكون والحياة كلها: مثل الاعتقاد بنظام العالم وانتظامه، وهو اعتقاد يتصل بالكون كله ويؤثر في مجمل منظومة معتقداتنا، أو الاعتقاد بوجود معنى شامل للحياة. والاعتقاد بوجود الله الحكيم الخالق، وكذلك الإيمان بالبعث، إذ إنّهما يشملان العالم كله وحياتنا كلها، يندرجان في هذا النوع من المعتقدات، حيث يكون دور المعتقدات الدينية فيه بارزًا.
٩- الصراع الوجودي في الإيمان أو الاستجابة للهموم الوجودية للإنسان: مثل الاعتقاد ببلوغ البطولة، أو الإيمان بنجاح معيّن في الحياة يجيب عن هواجس الإنسان الشخصية.
١٠- بعث الأمل: مثل الاعتقاد بقيمة التعليم الذي يجعلنا أكثر عزيمة على الإيمان به، أو الإيمان بالمهدوية.
١١- الارتباط بالعواطف أو المعتقدات المتأثرة بالعوامل النفسية: مثل الاعتقاد بالألعاب العاطفية التي ترتبط بالمشاعر فتزيد من إيماننا بهذه الأنشطة.
١٢- إثارة المحبة والمودة الباطنية: مثل الإيمان بضرورة مساعدة الآخرين، أو الاعتقاد بصلاح الأشخاص الذين نحبهم، أو الإيمان بالشخصيات النبيلة والقيّمة في المجتمع
١٣ – التواصل مع المؤمنين الآخرين: مثل الاعتقاد بتفوّق مبادئ حزب سياسي من خلال حضور اجتماعاته الحزبية.
١٤- إيجاد التآزر مع المؤمنين الآخرين: مثل الإيمان بتقدّم الوطن؛ فرغم أنّ معتقدات كلّ مواطن قد تختلف عن معتقدات غيره، فإنّ ملاحظة أنّ معتقدات الآخرين تسير في الاتجاه نفسه لمعتقداتنا يعزّز ثباتنا على ما نؤمن به.
١٥- اقتران الإيمان بفعل أو نشاط إنساني: مثل إيمان المناضلين الحزبيين بجدوى المعاناة والنشاط في الكفاح المسلّح، أو أداء الطقوس الدينية في سياق المعتقدات الدينية.
١٦- تحمّل التكلفة وقبول تبعات الإيمان: مثل الإيمان بضرورة مساعدة منكوبين بالفيضانات، حيث يؤدّي تخصيص جزء من الممتلكات الشخصية لهذا الغرض إلى زيادة إيماننا به، ومع التكرار يصبح يقيننا أقوى.
١٧- وجود نموذج واقعي ومتعالٍ للمعتقد: مثل الإيمان بمناهضة الإمبريالية الأمريكية لوجود نموذج بارز في هذا المجال مثل «تشي غيفارا»، أو الإيمان بمناهضة الاستعمار البريطاني استلهامًا من نموذج حقيقي ومتعالٍ مثل «المهاتما غاندي”.
١٨- أن يكون النموذج المتعالي للمعتقد قد دفع ثمنًا باهظًا: مثل الإيمان بالنضال ضد نظام الفصل العنصري، إذ كان «نيلسون مانديلا» نموذجًا واقعيًا لهذا المعتقد، وقد قضى سنوات طويلة في السجن من أجل هذه القضية.
١٩- تأكيد النمو الروحي للإنسان: مثل الاعتقاد بأداء الطقوس الروحية في الأديان التي تزيد من الروحانية لدى الإنسان.
٢٠- الشموليّة: مثل الإيمان بمبادئ الشيوعية في أوج ازدهارها، حين كان يتبنّاها كثير من الناس في شتّى أنحاء العالم وفي بلدان مختلفة.
٢١- تأكيد المحبة كنموذج للتعالي: كثير من القادة الذين يجسّدون مثالًا لمعتقد ما ينصحون أتباعهم بالسير على نهجهم، فيقبلهم الناس، لكن قلّة من القادة – وأفضلهم مثالًا – هم الذين يزرعون محبّة شخصية لا تزول في قلوب أتباعهم. فالسنّة، على سبيل المثال، يقبلون بالنبيّ الأكرم ﷺ كامل القبول، لكنّهم لا يقدّمون برنامجًا عمليًا لقبوله عن طريق المحبّة. أمّا الشيعة، فإنّ هذا الأمر واضح في إيمانهم بالنبيّ ﷺ وبأهل بيته (عليهم السلام)، حيث يؤدّون أعمالًا تعبّر عن هذه المحبّة، ويُعَدّ البكاء على مصائبهم علامةً عليها.
٢٢ – تأكيد المحبّة الباطنية كمحبّة للمؤمنين الآخرين: المعتقد الذي يُرفَع بهذه الطريقة يتجذّر في روح الإنسان بعمق، بحيث لا تستطيع العوامل الأخرى أن تعزّزه إلى هذا الحدّ. ويبدو أنّ المثال الأرقى وربما الوحيد لهذه الطريقة في تقوية المعتقد يتحقّق في مسيرة الأربعين.
ج – المعتقدات الدينية وكيفية ترسيخها في مسيرة الأربعين
إنّ القضايا المذكورة في القسم السابق تتعلق بالعوامل التي تعزّز المعتقدات في جميع مجالات إيماننا، ومن جملة هذه المعتقدات معتقداتنا الدينية. والعوامل المؤثرة في معتقداتنا الدينية هي ذاتها المؤثرة في سائر المعتقدات، ويمكن تقويتها وفق الحالات الاثنتين والعشرين المذكورة آنفًا. ومن البديهي أنّ هناك عوامل يمكن أن تضعف معتقداتنا الدينية أو تخلق لنا معتقدات دينية غير صحيحة، إلا أنّ ذكر هذه العوامل ليس مقصودًا في هذا القسم. إنّ الزيارة ومسيرة الأربعين من بين العوامل الكثيرة التي يمكن أن تسهم في تقوية وترسيخ الإيمان الديني. وفي هذا القسم، سوف نتناول العوامل الاثنتين والعشرين السابقة في سياق مسيرة الأربعين لنرى كيف أنّ جميعها حاضرة في هذا الحدث، وكيف تعزّز وترتقي بالمعتقدات الدينية:
١- مسيرة الأربعين مستندة إلى حقيقة تاريخية موثّقة بالروايات التفصيلية.
٢- بما أنّ مسيرة الأربعين تؤدي إلى التلاحم الاجتماعي بين الشيعة والأحرار، فإنّ لها فوائد وآثارًا جمة.
٣- تراعي مسيرة الأربعين الكثير من المعايير الأخلاقية مثل التضحية، والصبر، والإيثار، ومناهضة الظلم.
٤- وفقًا لشهادة أغلب المشاركين فيها، فإنّ مسيرة الأربعين تولّد لذة داخلية يعترف بها حتى غير المؤمنين، ويرون من الضروري خوض هذه التجربة الممتعة.
٥- تنسجم مسيرة الأربعين مع الكثير من المعتقدات الأخرى لدى المشاركين فيها، سواء كانت فردية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، ولا تتعارض معها المعتقدات الأخرى. ومن الجدير بالذكر أنّ هناك بعض التناقضات التي تُعَدّ من الأمور الضارة في هذه المسيرة، ومن اللافت أنّ مسيرة الأربعين تسهم أحيانًا في تصحيح بعض المعتقدات الإنسانية الأخرى. ٦- تحظى مسيرة الأربعين بتأييد واسع من المراجع الدينية، مثل الأئمة (عليهم السلام) والعلماء والمراجع، وقد أوصوا بها بشدّة.
٧- لمسيرة الأربعين سند تاريخي يمتد لأكثر من ١٤٠٠ عام.
٨- تسهم مسيرة الأربعين في تعزيز إيماننا بالله وبالبعث، باعتبارهما من المعتقدات المرتبطة بالكون كله وبالحياة كلها.
٩- تجيب مسيرة الأربعين عن بعض الهموم والهواجس الشخصية، ولا سيما ما يتعلق بمعنى الحياة.
١٠- تقوّي مسيرة الأربعين معتقداتنا الدينية من خلال بثّ الأمل بمستقبل مشرق في ظلّ نهضة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في آخر الزمان.
١١- ترافق مسيرة الأربعين موجة جارفة من المشاعر الشخصية.
١٢- تثير مسيرة الأربعين المحبة للإمام الحسين (عليه السلام) والسيّدة زينب (عليها السلام) وأصحابهما، ويظهر ذلك جليًا في البكاء على مصائبهم.
١٣- في مسيرة الأربعين تتاح الفرصة لمرافقة المؤمنين الآخرين والتواصل معهم.
١٤- في مسيرة الأربعين يلتقي كلّ مؤمن وجهًا لوجه مع المؤمنين الآخرين، ومن خلال تكرار مشاهدة السلوكيات المتأثرة بمعتقدات الآخرين، يتولّد التآزر في معتقداته.
١٥- توصي أديان كثيرة بمعتقدات معيّنة، لكن إذا كان هذا الاعتقاد مجرّد فكرة نظرية في أمر إلهي، فلن يكون عميقًا جدًا. ولهذا، فإنّ الطقوس الدينية هي أنشطة تساعد المؤمن على إنعاش الإيمان والحفاظ عليه. ومع أنّ الطقوس الدينية عادةً ما ترتبط بأوامر ونواهٍ، إلا أنّ النشاط الديني إذا لم يكن إلزاميًا وكان بدافع المحبة (مستحبًّا)، فإنّ الاعتقاد يتعمّق أكثر.
١٦- تخلق مسيرة الأربعين أكبر قدر من التكاليف للمؤمنين، حيث يقوم المشاركون بتوفير جزء كبير من نفقات معيشتهم ويجمعون مدّخرات سنة كاملة حتى يتمكنوا من تحمّل نفقات هذه المسيرة بشغف، وهم يستغفرون الله.
١٧- من النادر أن نجد اعتقادًا – مثل الإيمان بالإمام الحسين (عليه السلام) – يمكنه أن يقدّم مثالًا متعاليًا بهذا المستوى، كما يؤكد «غاندي» نفسه أنّ الإمام الحسين نموذج يُحتذى به.
١٨- من النادر أن نجد مثالًا لمعتقد متعالٍ قد دفع ثمنًا باهظًا كما فعل الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد قُتل هو وأبناؤه وأصحابه وأهل بيته، وتحمّلوا مشاقّ عظيمة. إنّ التضحية في سبيل الله لها أعظم الأثر في المعتقدات الدينية للناس.
١٩- تخلق مسيرة الأربعين للمشاركين تجارب روحية عميقة لم يعيشوها في ممارساتهم الدينية الأخرى.
٢٠- إنّ حضور ملايين المؤمنين من مختلف بلدان العالم ومدن لا تُحصى في هذا الحدث يجسّد شموليته، الأمر الذي يعزّز بدوره المعتقد الديني لدى الشيعة.
٢١- في مسيرة الأربعين، الإمام الحسين (عليه السلام) ليس قائدًا فحسب، بل هو مثال للمعتقد الديني يحبه الناس ويسعون إلى إظهار محبتهم له.
٢٢- إنّ أسمى سمة في مسيرة الأربعين أنّ المحبة للإمام الحسين (عليه السلام) تجعل جميع المشاركين في هذا الموكب يحبّ بعضهم بعضًا.
بقلم: حمیدرضا آیت الهی