مقدمة:
كشهاب مر وملأ سماءنا بوهج نوره. لم يعبر بعد.. هو ما برح بيننا.. ما زلنا ننتظر اطلالة له. وعدنا بلقاء بالذكرى السنوية الأولى للسابع من أكتوبر. انتظرنا نحن المكلومون دون عزاء الموعد بلهفة وشوق.
عد الينا يا سيد، يا صاحب الحضور البهي الطاغي، يا من ننحني إجلالاً لهيبته وعظمته.. أمثالك لا يغيبون يا من ملأت الكون بضوئك، وشغلت الدنيا بسحر صوتك وجمالية كلماتك وبهاء حضورك وعظمة مواقفك وعظيم إنجازاتك.. يا من علمتنا الشموخ في زمن الإنهيارات والتردي والذل، هل أنجزت المهمة فأبكرت الرحيل؟
أبتهل إليك يا ألله لا تفجعنا بخسارته.. وأنت يا يسوع صانع المعجزات، إنعم علينا بعودته والذهاب أمامنا، بعد تحقيق الانتصار كما وعدنا، إلى القدس للصلاة في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة..
على الأشهاد أعلنها، ولن أبدّل.. إلا عند رؤية جثمانه الطاهر يدفن في الأرض ويعود للتراب الذي منه أتى وأشرق بنوره ردحاً من الزمن. لن أعزي وأبارك باستشهاد سيد القوم… سماحة الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله. أترك هذا للغد، الغني بمفاجآته.
من على شرفة منزلي البيروتي سمعت، ذاك اليوم المشؤوم، أصوات القصف الخارق للتحصينات الذي استهدفه، فيما قيل أنه مكان تواجده حينها. كانت لهب النيران البرتقالية تتصاعد في الطرف المقابل. مع تناقل الخبر، وقع الصدمة كان عظيماً جداً، ابتلاءا كبيراً، أحدث فراغاً واسعاً وسع الكون. رغم المراوحة بين التصديق والإنكار، والدخول في حالة ذهول ثم حداد لاستيعاب الحدث الجلل، إذ بي أجد نفسي سريعاً أقول للمعزين باستشهاده: تمهلوا… انتظروا قليلاً المزيد من الاخبار قبل أن تخلصوا لموقف نهائي.
لم يكن هذا الموقف من باب الإنكار، وهو الآلية النفسية للدفاع عن الذات التي تبرز عند حدوث صدمة لا يمكن تقبلها. إنما هو الشعور الخارج من العقل الباطن الذي يخالج المرء، في الجهة اليمنى من الدماغ، حيث مكمن الحاسة السادسة وما يتكون من مشاعر، يقصر العقل عن تصورها. روحه التي تجسدت في هذا العالم السفلي لم تنه مهمتها بعد. الحاجة ما زالت ماسة لحضوره وإشعاعه في خضم التحولات الكبرى في المنطقة والعالم، حيث لاسهاماته الفضل الأكبر في رسمها وتكريس جزء هام من مراحلها. هل مشينا في جنازته، وذرفنا الدموع الحارة في موكبه، وقدمنا الشعائر التي تستحقها هذه النعمة الربانية التي اصطفانا الله بها دون غيرنا ؟ هذه الايقونة التي لا تعوض خسارتها والتي لا تتكرر، ربما اختفت لتظهر بعد النصر.
هذه ليست هلوسات عاشق. الدلائل على نجاة سيد القوم من الكارثة التي ألمت بنا كثيرة. لست وحدي من يستدعيها. لقد خاطبنا في آخر إطلالة له بعبارة: “الخبر في ما ترون لا في ما تسمعون”. كتب بخط يده، وهو الذي يحسب كلماته بدقة: “إلى اللقاء قريباً”، في حين لا يعلم الغيب إلا الله. هي رسائل مشفرة، وعلينا تبيان معانيها العميقة. كل يفسرها كما يشاء. لكن الأيام والليالي بيننا.
وكالة تسنيم الإيرانية أكدت من جانبها أنه ونائبه أحياء في مكان آمن. العدو نفسه أعلن أن العملية لم تنجح، مشككاً بإنجازه، وهو الأشد ما يكون حرصاً للإعلان عن أي نصر في معركة وجودية كهذه، فكيف بالحري اغتيال نصرالله؟ لن اتطرق للجثة والتشييع وتعيين من يخلف وتأكيدات البعض التي تفضحها لغة الجسد وسواها من مؤشرات لا تقنع في حضرة هذا الزعيم التاريخي.
لكن لو صدقت فعلاً فاجعة الخسارة، فسنعزي أنفسنا بأنها الأقدار ومشيئة الله، وبأن سيد القوم تمنى على مسامعنا الشهادة، حيث ليس في الشهادة موت، بل عزة وحياة ومجد. وأن الشهادة في الفهم الإسلامي، حسب كلامه: سعادة وبشرى واصطفاء إلهي وفوز عظيم وانتصار حاسم لكل من ينالها. وبمطلق الأحوال، هذا الزعيم الحكيم، العظيم، الذكي، الخلوق، الشجاع، المحب، الحنون، صاحب الطهارة، الزاهد في الدنيا، سيبقى بعد رحيله حياً فينا. وروحه ستبقى ترفرف فوقنا وترافقنا حتى النصر المؤزر الذي كرس حياته لبلوغه.
خلال هذه المحنة وهذا الامتحان العسير، سنحتاج لأكثر ما يكون من التآزر والتضامن والحس الوطني الذي يجمع ولا يفرق بين مكونات المجتمع، أو يشوش على عمل المقاومة التي تتصدى لمهمة التحرير. نحتاج لإعلام شريف ومسؤول، غير مهادن أو مستسلم أو متواطيء مع العدو. وللأسف بعض هذا الإعلام وهذه المنصات الاجتماعية لم تعد أكثر من أداة في يد الصهيونية، على حساب مصالح وطنها وشعبها. لقد بات التضليل الإعلامي أشد خبثاً وحضوراً بين جنباتنا. استراتيجياته للتغلغل والإبهار والإقناع والتأثير والتحوير بقراءة الأحداث الجارية لا تعد ولا تحصى. لكي الوعي ودس السم في العسل يلجأ لفلاتر، كتسبيق الخبر الثانوي على الرئيسي عبر قالب من الإثارة والتشويق وتشويش الرؤية عند المتلقي. وعبر انتقاء الضيوف للتحليل والمواكبة بعناية، لأخذ المشاهد في المركب المراد توجيه الرأي له. لتحويل الأنظار عن القضايا الأهم وعن العدو الحقيقي. لخلط الأوراق وقلب الحقائق وتمييع المؤامرة التي ترتكب بحق هذه الشعوب المقهورة والمستباحة. بحيث تصبح الخيانة وجهة نظر، والتطبيع مع العدو حسن إدارة، وتبني وجهة نظره مسألة فيها نظر تنسجم مع تطور الأحداث.
كل ذلك ليس في النهاية سوى أدلجة وتظهير، ليس فقط للخلفية الفكرية، وإنما النفسية والغرائزية للشخص والجماعة. من منطلق الإنسجام مع النفس والتحيز التأكيدي، وتبني ما يساق دون مواربة أو شعور بالحرج. من هنا نفهم كيف نجحت المليارات التي صرفت لهذا الغرض في تدجين جموع من مجتمعات ودول تقاعست عن الخروج للساحات للاستنكار والضغط على الحكومات لتغيير اتجاهات سياساتها بما يتعلق بمصيرها وبمعركة التحرير. كما عملت على التشكيك ببعضها وبقضاياها وبحقوقها، ولم تقاوم بالوسائل المتاحة ما يُرسم لها هي نفسها. حتى بعدما شاهدت استباحة سواها أمام ناظريها بأبشع ما يكون من امتهان كرامة البشر والتشنيع بأجسادهم وانتهاك حرماتهم وإنسانيتهم.
لقد فضح طوفان الأقصى وكشف، لمن لم يكن قد أدرك بعد، طبيعة المشروع الصهيوني. منا من تناسى مقولة: أكلت يوم أكل الثور الأبيض. تجاهل هدف الطغمة الصهيونية المتحكمة في هذا العالم الذي ليس فقط وضع اليد، عبر دولة الكيان، على ثرواتنا وما نملك في الأرض العربية وهذه المنطقة من العالم – حيث في البداية كانت فلسطين، وإنما الذهاب لأبعد من ذلك، كما تصرح دون خشية أو خجل. أما سيد المقاومة، فاستشهد في معركة شريفة من المواجهة مع الفاشية التوراتية، وضد التوحش الصهيوني الفالت من عقاله الذي استفرد، منذ عقود طويلة ومريرة، بكل مكون على حدة في هذه الأرض التي باركها الله. ومن السذاجة بمكان الاعتقاد أن المطامع محصورة فقط في هذا الجزء من العالم.
من هنا، لنا أن نبارك أرواح ملائكة استشهدت وضحت بالنفس لاسترداد الحقوق السليبة واسترجاع الكرامة المستباحة. فهنيئاً لهم بين الأطهار في ملكوت السماء. وأسمى آيات العرفان لرجال الله في الميدان الذين يؤسسون لشرق أوسط جديد، مغاير لما يتوخاه شياطين الأرض، ويدفعون الدم عن البشرية جمعاء. في نفس السياق، أغتنم المناسبة لمباركة أبطال غزة وفلسطين بالذكرى الأولى للسابع من أكتوبر. هؤلاء الأحرار الذين سطروا الملاحم البطولية على مدار سنة من التصدي للعدوان. ننحني إجلالاً وإكباراً كذلك للشعب الصامد المضحي المحتضن لبطولات ابنائه رغم البلاء العظيم، من غزة والضفة إلى لبنان مروراً باليمن والعراق ووصولاً لسائر من ضحى وفدى هذه الأرض في مجمل ساحات المحور المقاوم.
وفي الخلاصة أود أن أذكر بالقادم من مخططات، حيث قدمت الأمم المتحدة مؤخراً، من خلال الجمعية العامة – إثر فشل منظمة الصحة العالمية بتمرير معاهدتها التي سعت لها قبل أشهر- وثيقة تدعى “ميثاق المستقبل”. هذه الوثيقة مؤلفة من جزئين: الأول حول العلوم والتكنولوجيا، والثاني الشباب والأجيال القادمة. هذه الوثيقة تم تمريرها تحت مسمى “إجراء الصمت” الذي يقتضي بأن تصبح ميثاقاً إن لم يعترض عليها أحد، فتسجل تلقائياً كوثيقة معتمدة. هذه الطريقة اعتمدتها منظمة الصحة العالمية للالتفاف على معارضة خططها بالتسيد على العالم، ووضع مصير الشعوب بين يديها، عبر جوائح كجائحة الكوفيد، أو ما سمي كذلك، والتأثير على المشاعر وكي الوعي والتحكم بغريزة الخوف من الآتي والمستقبل.
بعض ما تحتويه هذه الوثيقة، التي يجب أن يتم قبولها من ١٩٣ دولة ممثلة فيها، بناء سلطة رقمية بالكامل للتحكم بالجماهير. أي أنه على كل فرد الحصول على هوية رقمية بيومترية تجعله مواطن عالمي، وليس تابعاً لبلد محدد له استقلاليته وسيادته. وبالتالي رأيه يجب أن يصب في خدمة توجه الطغمة المتحكمة بتلابيب الشعوب. وإن لا، يصنف كمعلومات خاطئة أو مضللة، ويمكن ملاحقته ومحاكمته عبر آليات الذكاء الاصطناعي. أما العقوبات فتشمل حظر الحساب البنكي للمستهدفين، بحيث يتعذر عليهم أن يبتاعوا ما يحتاجوه، من خلال العملة الرقمية التي ستفرض حكماً، كأن يستقلوا طائرة أو مواصلات عامة أو حتى أن يقودوا سيارة، والخ من أمور حياتية تشل قدرة المرء على إدارة حياته وابتياع احتياجاته، بما فيها الماء والطعام وأي شيء يبقي على قيد الحياة. ذلك كله بإمرة أطراف لم ينتخبها أو يتوافق عليها أحد، لكنها تؤثر على قرارات الدول. فالهدف لديهم في النهاية بلوغ حكومة عالمية واحدة تدير العالم بمجمله وتخفض مليارات البشر “لمليار ذهبي” كما اسموه. أما من يبقى منهم فيكونوا بمثابة عبيد لتسيير أمور حياة هؤلاء. هذا هو النظام العالمي الجديد الذي يبغونه ويعملون على فرضه بالتدمير والقتل واستعمال كل الوسائل المتاحة. فهل أمام هكذا مخطط نقف غير مصدقين أو مشككين أو عاجزين عن أي فعل يقلب عليهم ظهر المجن ويقف حائلاً أمام تحقيق أحلامهم الشيطانية؟
من هنا انتصار لبنان وفلسطين وسائر المحور المقاوم وكل حر في هذا العالم هو انتصار للإنسانية جمعاء. انتصار على البربرية وشريعة الغاب والمخططات الشيطانية. أما تعليق الآمال على دول كبرى أو مؤسسات أممية، افترضنا لوقت أنها وازنة وساعية لإحقاق السلم والعدل على الساحة الدولية، فهو هراء واهدار للوقت. هو تمكين من رقابنا بتفويت الأوان على معالجتها بالتصدي لها. بدل الاتكاء على الذات، والتشبيك بين المصالح المشتركة، والتعاون لإعلاء الأخلاق وكرامة الإنسان في التعامل بين الدول قبل المصالح، والسهر على حقوق البشر المشروعة وعلى رأسها الحق بالحياة.
د. فيوليت داغر-باریس