امتازت شخصية القائد قاسم سليماني وهو على رأس فيلق القدس ، بمتابعته الدقيقة لأحوال المحرومين والمضطهدين في العالم ، وكان على مستوى عالي من الدراية بأحوال الشعوب مشخصاً لنقاط ضعفها وقوتها، محاولاً بكل جدية ومثابرة الوصول اليهم ومد يد العون اليهم ، وكان يساعدهم في شؤون التدريب والتنظيم والتسليح من أجل ان يمتلكوا زمام المبادرة ويعززوا نقاط القوة للخلاص من كابوس الظلم الذي يُخيم عليهم ويشوه حياتهم .. كانت تلك المواصفات عابرة للهوية الجغرافية ومتحررة من قيود الحدود المناطقية، والمنطلقة من أساس مبدأ الحرية والكرامة للإنسان و رفض الظلم للشعوب ،خصوصاً التي لا تمتلك مقومات القوة والتي تُغلق الابواب أمام شبابها العُزل.
الحركة الميدانية
لم يترك القائد سليماني منطقة من مناطق المواجهة التي تسعى لتحرير إرادة الانسان وصيانة كرامته ودعم صموده إلا وكان له حضور فعلي فيها. ومع ان الاعلام قد اختلس النظر اليه في بعض المواقع ليثبت خطواته على سواتر المواجهة ،او في ادارة العمليات ،او عند وضع الخطط والتنسيق الاستخباري ، او في اللقاءات السياسية عالية المستوى لتعبيد الطريق وتهيئة الاسباب لنصرة المقاومين ، الا ان سنين الشهيد الممتدة عبر اربعين سنة وتزيد كلها كانت في صمت مهيب وسرية تامة لا تسعى للظهور ولا ترغب حتى في كسب الثناء والشهرة.
بهذه المواصفات الترابية والحضور الشخصي والحركة الميدانية بين المقاتلين وتذليل الصعاب لهم حتى يجعل منهم قوة متمكنة على الارض تسطر أروع ملاحم المواجهة وتحقق النصر الذي مهد له القائد سليماني الأسباب ، فضلاً عن النهضة المعنوية والروح الايمانية التي كان يغرسها ويرعاها في قلوب المجاهدين ليكون الرجل منهم بمثابة كتيبة قتالية.
إن قافلة المجاهدين المخلصين لم تتوقف يوماً في طرق النضال من اجل الحرية والكرامة ، وقد بذل في سبيل ذلك الدماء الغالية والارواح العزيزة، الا ان ما يميّز الشخصية المجاهدة للحاج قاسم سليماني هي أنها شخصية تعتمد على تشخيص الهدف بدقة، اضافة إلى النظرة الاستراتيجية البعيدة في تحليل الامور، مع ضبط وتخطيط عاليين في الدقة والموضوعية، وبصبر ونفس طويل من دون الالتفات إلى حديث العقبات والمشاكل والتهويل المؤدي إلى الاحباط واليأس، بل بتحويل كل ذلك إلى فرص للتميّز في الموقف والنهوض الدائم بتحمل المسؤولية واعتماد المعنويات العالية وبروح إيجابية محققة معنى التوكل على الله بتلك النظرة والعبارة الإلهية التي لا تخرج إلا عن قلوب العارفين الواصلين (يقيناً كله خير).
لقد كانت موازين الحاج قاسم سليماني مختلفة، فاليقظة الدائمة الحضور الموت في كل لحظة مرتبطاً بالأمل الدائم لبلوغ الهدف بإحدى الحسنيين وهو يناجي ربه بقوله: (فدعني أتصل بك… إلهي أقسم عليك بحرمة أولئك الذين أوجبت حرمتهم على ذاتك، الحقني بالقافلة التي سارت إليك)، مع علاقة فريدة بذكرى الشهداء من خلال صورهم واسمائهم واستحضار قصصهم البطولية كرافد مهم من روافد الحياة الحقيقية المفعمة بالبصيرة والاخلاص ونكران الذات، وهو يوصي بأن الشهداء محور عزتنا وكرامتنا جميعاً… فلتنظروا إليهم بأعينكم وقلوبكم وألسنتكم بإكبار وإجلال كما هم حقاً). فضلاً عن التزامه الصارم بزيارة عوائلهم وتكريم ايتامهم واحترام ارثهم المعنوي والعائلي، فيقول (عرفوا أبناءكم على أسمائهم وصورهم، وأنظروا إلى أبناء الشهداء الذين هم أيتامكم جميعاً بعين الأدب والاحترام).
لم اتطرق لأيمانه العميق بل ذوبانه في الطاعة للولاية والدفاع عنها والتذكير الدائم لنعمة وجودها فإن تلك المسألة مثلت حجر الزاوية التي بنى عليها بنيانه كله، فمن يطالع وصيته الالهية يجده يقول ويوصي في مواطن عدة: (لا تتخلوا عن خيمة الولاية وأن تتمسكوا بها من اجل إنقاذ الإسلام ويبين ان الاعتقاد العملي بولاية الفقيه هي ان تنصتوا إلى نصائحه وتطبقوا من أعماق القلب توصياته وملاحظاته بوصفه طبيباً حقيقياً من الناحيتين الشرعية والعلمية).
وكان دقيقاً وموضوعياً في طرحة للمسائل السياسية والأمنية والاستراتيجية المحلية والاقليمية والدولية إلى درجة تفوق الوصف فقد كان محيطاً وعارفاً بأدق التفاصيل يتسلسل بموضوعية فريدة ويحلل الاحداث بدقة عالية معززاً ذلك كله بالمعلومات الخاصة.
إن هذه المدرسة وهذا المنهج وإن امتلك مقومات بقائه فيه واكتسب إشعاعاً ووهجاً يفيض نوراً على مساحة واسعة زمانيةً ومكانية ولأجيال متعاقبة، الا ان هذا لا يمكن ان يكون سبباً لترك العمل على ديمومة هذه المدرسة وتخليد هذا المنهج والحفاظ على الأثار المعنوية الكبيرة ورعاية ظلالها الوارفة لتصل إلى جميع القلوب لتحيى وتُحيي، ولن يكون ذلك ميسوراً من دون اعتماد بناء الانسان فكرياً وعقائدياً وأخلاقياً بثقافة القرآن الكريم أولاً وسيرة النبي المصطفى وعترته الطاهرة عليهم افضل الصلاة والسلام ثانياً، ثم باقتفاء أثر العلماء الربانيين المصلحين أمثال الامام الخميني رضوان الله عليه، فضلاً عن التخلق بخلق الشهداء لأن في اخلاقهم مناراً عظيماً للسير في أصعب الطرق والوقوف بصلابة في اشد العقبات. فهذا كفيل بأن يُبقــي شعــلة العطاء مضيئة كمنارة تهدي الضالين وترشد التائهين وتثبت قلوب المؤمنين والمجاهدين.
بقلم: علي فاضل الدفاعي